فصل: الجملة الأول في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد ووزراء ملوكها يومئذ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثاني عشر في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء المنفذين أمور الخلافة اللاحقين بشأو الملوك:

وفيه جملتان:

.الجملة الأول في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد ووزراء ملوكها يومئذ:

أما وزراء إقطاعاتها، فقد ذكر أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب أن المكاتبة من الوزير إلى الخليفة في زمانه كانت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأعزه وأيده وأتم نعمته عليه، وأدام كرامته له.
قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب: وإن كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه فدعاؤه له: أطال الله بقاءك وأدام تأييدك وتمهيدك وكرامتك. ودونه أطال الله بقاءك وأدام عزك وحراستك. قال: وعلى مقدار المكاتب يكون الدعاء. وأقسامه كثيرة. ثم ذكر الأدعية العامة بعد ذلك على الترتيب فقال: إن أعلاها يومئذ: أطال الله بقاءه وأدام تمكينه ورفعته وبسطته وعلوه وسموه، وكبت أعداءه وحسدته. ودونه: أطال الله بقاه، وأدام تمكينه وارتقاه، ورفعته وسناه، وتمهيده وكبت أعداه. ودونه: أطال الله بقاه وأدام تأييده ونعماه وكبت أعداه. ودونه: أطال الله بقاه وأدام تأييده وحرس حوباه. ودونه: أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه. ودونه: أطال الله بقاءه وأدام نعماءه. ودونه: أطال الله بقاءه وأدام عزه. ودونه: أطال الله بقاءه وأدام توفيقه وتسديده. ودونه: أطال الله بقاءه وأدام سداده وإرشاده. ودونه: أطال بقاءه وأدام حراسته. ودونه: أدام الله تأييده وتمهيده. ودونه: أدام الله توفيقه وتسديده. ودونه: أدام الله عزه وسناه. ودونه: أدام الله عزه. ودونه: أدام الله حراسته. ودونه: أدام الله كرامته. ودونه: أدام الله سلامته. ودونه: أدام الله رعايته. ودونه: أدام الله كفايته. ودونه: أبقاه الله. ودونه: حفظه الله. ودونه: أعزه الله. ودونه: أيده الله. ودونه: حرسه الله. ودونه: أكرمه الله. ودونه: وفقه الله. ودونه: سلمه الله. ودونه رعاه الله. ودونه: عافاه الله.
ثم المكاتبات الصادرة عنهم على أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابي:
والرسم فيه أن يقال كتابي- أطال الله بقاء سيدي، أو بقاء مولانا- والأمر على كذا وكذا، ومولانا أمير المؤمنين، أو والجانب الأشرف ونحو ذلك على حال كذا؛ ثم يتخلص إلى المقصد بعد ذلك بما يقتضيه المقام ويختم بقوله ورأي حضرة سيدنا أعلى.
كما كتب بعض الكتاب عن الوزير قوام الدين بن صدقة إلى بعض وزراء ملوك زمانه في معنى أمير مكة المشرفة، وما كان بينه وبين أمير الحاج في بعض السنين ما صورته:
كتابي- أطال الله بقاء حضر سيدنا- ومواهب الله سبحانه في أمر مولانا أمير المؤمنين جارية على الإرادة، مقابلة بالشكر المؤذن لها بالدوام والزيادة؛ والحمد لله رب العالمين. وقد تتابعت المكاتبات في أمر النوبة المكية تتابعاً علمه السامي به محيط، والعذر في الإضجار بها مع إنعام النظر بسببها مبسوط؛ وبعد ما صدر آنفاً في المعنى المذكور وصل كتاب زعيم مكة بما نفذ على جهته ليعلم منه ومما لا ريب أنه أصدره إلى الديوان العالي السلطاني- أعلاه الله- حقائق الأحوال بغير شك: أنه قد اتضح تفريط من فرط في هذه النوبة وعجل، وتحقق المثل السائر: رب واثق خجل. وأسباب ثمرة الهوى الذي ما زال يجمح براكبه، ويريه سوء عواقبه؛ وعلم أنه لم يخط فيما شرع فيه، واستمرت على الخطأ أواخره ومباديه، إلا بوعد أخلف، ومال أتلف؛ وخطر ارتكب، وصواب تنكب، وحزم أضيع، وهوى أطيع، حتى كان قصاراه، دفع اللائمة عنه، فإنه أوصل الحجيج إلى مقصودهم وأعادهم، وأحسن التواصل حتى أدركوا من أداء الفريضة مرادهم؛ وهل اعترض دون هذا الأمر مانع، أو كان عنه دافع؟ لولا ما صوره من الأسباب التي أفسد بها الأمور، وأوغر بمكانها الصدور، وكفل بعد ما قرره من ذلك ومهده، ما عكسه سفه الرأي عليه، وأبعده العجز عن الوصول إليه؛ وأي عذر في هذا المقام يستمع؟ أم أي لائمة عنه تندفع؟ وقد جرت الحال على ما علم، وتحدث بانخراق حجاب الهيبة كل لسان ناطق وفم، ووقع الاتفاق من كافة الحاج على أن تمسك نائب مكة بطلب الرضا، وتكفيل خصمه باستدراك ما تلف منن التفريط في معايشه ومضى، ونظره في العاقبة التي ينظر فيها ذوو الألباب، وعمله بما أصدره الديوان العزيز من مكاتبة أمر فيها بالطاعة وخطاب؛ وهو الذي لأم النوبة وشعبها، وسهل عسيرها ومستصعبها؛ ولو افتقرت إلى سعي أمير الحاج واجتهاده وإبراقه بعسكره وإرعاده، لكان الحج ممتنعاً والخطر العظيم متوقعاً، ولم يحصل الوفد إلا على التغرير بالنفوس، والجود منها بكل مضنون به منفوس؛ ثم عرب الطريق الذي ما زال أمير الحاج في حقهم خاطباً، ولإكرامهم بالقول المتكرر طالباً، وجاعلاً ما لعله يتأخر من رسم أحدهم من دواعي الخطر في سلوك الطريق المردية، وموجبات الفساد في المناهل والأودية، يتلو من النهب والاجتياح، والأذى العائد على فاعله بالاقتراف العظيم الوزر والاجتراح، بما يؤلم شجاعة القلوب ويحرقها، ويبكي العيون ويؤرقها؛ ولقد انتهى أن العسكر المنفذ أمامه كان يتنقل في هضاب البرية وغيطانها، وينقب عن منازل العرب وأوطانها، فيستقري أحياءهم حياً فحياً، ويتخلل الفجاج فجاً ففجاً، فإذا شارفوا قبيلة منهم طلب النجاة منهم بالحشاشات رجالها، وأسلمت إليهم نساؤها وأطفالها وأموالها؛ فيتحكمون في ذلك تحكم من استحل موقفه في إباحة محارم الله ومقامه، وأمن مكره الحائق بالظلمين وانتقامه؛ ويستبيحون حريم كل بريء غافل لم يقارف ذنباً، وطائف لا يستحق غارة ولا نهباً؛ فأين كان من النظر عند هذا الفعل في حفظ عرب الطريق؟ وكيف عزب عنه في هذا الرأي منهج التوفيق؟ وهل تتصور الثقة بكل قبائل العرب عن إفساد الآبار والمصانع؟ والعبث بكل مستطاع في المناهل والمشارع، خاصة إذا علموا أن الذي ظلمهم، وأباح حرمهم، هو السالك للطريق آنفاً، والمتمكن فيهم من معاودة الأذى الذي أضحى كل به عارفاً، واستدراك الفارط في هذا الأمر المهم متعين، ووجه الرأي فيه واضح متبين، والإشارة في كتاب زعيم مكة، إلى ما جرى من المعاهدة واستقرت القاعدة عليه من إعادة ارتفاعه المأخوذ ورسومه على التمام والكمال إليه، أدل الأدلة على بعد النوبة من الالتئام، ودخول الخلل عليها وانحلال النظام، وتعذر الحج في المستقبل. على أن من أفسدها، لم يتأمل لنفسه طريق الصدر حين أوردها؛ والألمعية السامية المعزية حرس الله عزها اللامحة ببديهتها العواقب، المستشفعة سرائرها بالرأي الثاقب، أهدى إلى تدبيرها بما يستدرك الفارط، ويتلافى غلط الغالط، ويعيد الأحوال إلى جدد الصلاح وسننه، ويجريها على أجمل قانون مألوف وأحسنه، وما أولاه بالتقديم في هذا المهم الذي لا أحق منه بالاهتمام والجد الصادق التام، بما تطمئن به النفوس إلى صلاحه وانتظامه، وارتفاع كل مخشي من الخلل الداخل عليه وانحسامه، والإعلام في الجواب بما يقع السكون إلى معرفته، ويحصل الأنس والشكر في مقابلته؛ ورأي حضرة سيدنا أعلى إن شاء الله تعالى. والشكر في مقابلته؛ ورأي حضرة سيدنا أعلى إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار:
مثل أن يقال: أصدرت هذه المكاتبة، أو هذه الجملة، والأمر على كذا وكذا، بعد أن يدعى للمكتوب إليه بعد لفظ الإصدار، ثم يتخلص إلى المقصود بما يليق بالمقام، ويؤتى على القصد إلى آخره، ويختم بقوله: ورأي حضرة سيدنا أعلى.
كما كتب عن الوزير قوام الدين بن صدقة أيضاً إلى ملك سمرقند جواباً عن كتاب وصل منه إليه: أصدرت هذه الجملة- أطال الله بقاء حضرة مولانا- ومواهب الله سبحانه في الجناب الأشرف- لا زالت مطالع سعوده منيرة، وأعواد علائه مورقة نضيرة- آهلة الربوع، عذبة الينبوع، قارة لا يظعن ركبها، دارة لا يعز حلبها؛ والحمد لله رب العالمين.
ووصل كتابه، أدام الله علوه، الصادر على يد الشيخ الأجل العالم أبي الحسن بن علبك ووقفت عليه وعرفت فحواه، وتضاعف الشكر لله سبحانه بما حواه، من اطراد الأمور واتساققها، وطلوع شمس النجح في سماء مباغيه وإشراقها، وأحدث ابتهاجاً بوروده متوفراً، واغتباطاً بما أولاه جلت آلاؤه من صنعه الذي أصبح ذنب الأيام معه مغتفراً، وعرضت خدمته المقترنة به على مجالس العرض الشريفة قدسها الله مشفوعة بذكر ما لبيته الكريم وسلفه الزاكي الأرومة من المآثر التي أضحى بها في الفخر علماً، وعلى ناصية المجد محتوياً محتكماً، في ضمن إيضاح المحاسن التي أصبح أيد الله سموه بها منفرداً، ولنجاد المحامد بحسبها مقلداً، والمواقف في الطاعة الإمامية التي أصبحت غرة في جبهة الزمان، ولم يسع في مثلها لغيره قدمان، وانتهت في تمكين القواعد وتوطيدها، وتأكيد الأحوال وتمهيدها، والتجرد في تحصيل الأرب، وتيسير المطلب، إلى ما يوجبه الود المحصف الأمراس، والمصافاة الخالصة من الشوائب والأدناس؛ فأنست في مقابلة ذلك من الالتفات إلى ما أوردته مما يبين عن لطف مكاتبته بالموقف الأشرف ويعرب، ويصفو مورد الفخار بمثله ويعذب، وجدد من التشريف والزيادة فيه ما يوفي على الذي تقدمه قدراً، ويجل طوقه عن أن يرضى عمراً، وشفع ذلك بتنفيذ التشريفات لولده أيد الله علوه والمطيفين بحضرته، واللائذين بحوزته، وابتدائهم بالإحسان والإنعام، والتكرمة الموفية على المرام، إكباراً لشأنه، وإبانة عن محله من الآراء الشريفة ومكانه، وإيثاراً لإعظام أمره، وإعلاء قدره، ليعلم- أيد الله علوه- مكان التجرد في هذه الحال، وصدق السعي الذي افترت ثغوره عن نجح الآمال، وأرجو أن يصادف حسن المقام في ذلك عنده موقعه، ويلقى لديه اعترافاً يوافق مرآه مسمعه.
فأما الإشارة إلى المشار إليه في التوزع لتلك الهنات الجارية، التي ما زالت الأيام بمثلها جائية، والاسبتشار بزوال ما عرض واضمحلاله، وعود الرأي الأشرف إلى أكمل أحواله، وقد عرفها بمزيد الاعتداد والشكر قائلها، ولم يكن الذي جرى مما يشعب فكراً، أو يتوزع سراً، فإن الاعتداد الأشرف كان بحمد الله محفوظاً، والاجتهاد في الخدمة بعين الاعتراف والرضا ملحوظاً، لم تحله حال متجدده، ولا رتعت الحوادث مورده؛ وما زالت ثغور الأيام في كل وقت عن الزيادة باسمه، وسحبه بنجح اشتطاط الآمال ساجمه، والمندوب لتحمل المثال وما يقترن به من التشريف فلان، وهو من أعيان العلماء، ومن له في ميدان السبق شأو القرناء؛ وله في الدار العزيزة مجدها الله الخدمة الوافية، والمكانة الوافرة، وما زالت مذاهبه في خدمه حميدة، ومقاصده على تقلب الحالات مرضية سديدة؛ وجدير بتلك الألمعية الثاقبة أن تتلقى ما يورده بالإصغاء، وتقابل النعم المسداة إليه بالشكر الماطر الأنواء، وتوقظ ناظر اهتمامه للنهوض بأعباء الخدمة الإمامية، وحيازة المراضي المكرمة النبوية، وتمهي عزيمتها فيما يكون بالإحماد الأشرف محظياً، ولأمثال هذا العرف المصنوع مستدعياً، ولرأي حضرة سيدنا في ذلك علو رأي إن شاء الله تعالى.

.الجملة الثانية في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء الفاطميين بالديار المصرية:

فقد ذكر علي بن خلف من كتاب دولتهم في كتابه مواد البيان أنه إذا كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه، تكون بغير تصدير؛ إلا أن الخطاب فيها يجب أن يبنى على أقدار المخاطبين في مراتبهم في الدولة، ولم يزد على ذلك.
والذي وقفت عليه منه أسلوب واحد: وهو أن يفتتح الكتاب بلفظ: كتابنا والأمر على كذا، ويتعرض فيه لذكر حال الخلافة والخليفة، ثم يتخلص إلى المقصود بما يقتضيه الحال، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن بعض وزراء العاضد: آخر خلفائهم إلى بعض الملوك ما صورته:
كتابنا- أطال الله بقاء الملك- عن مودة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشباب، وعوائد عوارف لا يتنكر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقص معروفها ولا ينفض مسوفها؛ وسعادة بالخلافة التي عدق إليه أمرها وأوضح سرها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها. بمولانا وسيدنا أمير المؤمنين تتوالى ميامنها، وتتلألأ محانسها، وتشرف درجاتها، وتتضاعف سعادتها؛ والكلمة قائمة على أصولها، وأمور الخلق جارية على ما هو لها، نظام الإسلام بسياستها لا يهي، وسياقة الدوام في سعادتها لا تنتهي، والله الموزع شكر هذه المنن، المسؤولة في الإنهاض لما نهضت فيه النية وقصرت عنه المنن؛ ولم نزل- أدام الله إقبال الملك المعظم- معظمين لأمره، عارفين نبل قدره وجليل فخره، مشيدين بجميل ذكره وجزيل نصره، معيدين لما تتهادى الألسن من مستطاب نشره، قارئين من صفحات الأيام ما أمدها به من بشره، غير مستيمنين لذكر اسمه الكريم إلا بصيامه وشكره، موردين مما هو يبلغه من بارع ضرائبه بالمقامات الشريفة من آثار سلفه ومآثرهم، ومأثور مكارمهم ومفاخرهم، واستناد المكرمات إلى أولهم وآخرهم، ومشهور ذبهم عن الملة ودفاعهم عن أهل القبلة، وسدادهم في الأمور، وسدادهم في الأمور، وشدادهم الثغور، وسيادتهم الجمهور، واستقلالهم بالمشقات المتقدمة، وإخمادهم أمور الدولة العلوية التي اشتهر بها منهم الأكابر، وورثها كابر عن كابر، وحافظوا منها على سيرة معروف لا ينسخ، وعقد صفاء لا يفسخ، وسريرة صدق تستقر في الضمائر وترسخ، وتتوضح بها غرة في جباه السبق وتشدخ؛ وتستهدي عند إيراد هذا الذكر العطر، والثناء المشتهر، من الدعوات الشريفة العاضدية بالنجح، المتوضحة عن مثل فلق الصبح، وما يتهلل لمساعيه بالميامن المستهلة، ولمراميه بالإصابة المتصلة، بينه وبين هذه الدولة العالية، والخلافة الحالية، بكتاب منه نهجنا فيه طريقها اللاحب، واستدعينا به إجابته التي تتلقى بالمراحب؛ وأعلمناه أن تمادي الأيام دون المراسلة وتطأولها، وتنقل الأحوال والدول وتناقلها، لا يزيد مودته إلا استحكام معاقد، وانتظام عقائد، ووفاء مواعد، وصفاء موارد؛ وأنه لا تباعد بين القلوب بغرض المرمى المتباعد، ولا تفرق المسافات القواصي ما بين النيات القواصد. فلما تأخرت الإجابة، تقدمت الاسترابة، وتناجب الظنون المعتلجة، وتراجعت الآراء المختلجة، بأن الرسول عاقته دون المقصد عوائق، وتقسمته من الأحداث دون الطريق طرائق؛ فلم ترد المكاتبة إلى جنابه، ولا أسعد السعي بطروق جنابه، الذي تنال السعادة وتجنى به، وإلا فلو أنه أم له، بلغ ما أمله، ولو وصله، لأجاب عما أوصله؛ لأن مكارم خلائقه تبعث على التبرع بالمسنون فكيف بقضاء المفروض، وشرائيف طرائقه تأبى للحقوق الواجبة أن تف لديه وقف المطرح المرفوض. فجددنا هذه المكاتبة مشتملة على ذلك المراد، وفاوضناه بما يعيره الإصغاء، ويجنبه الإلغاء، ويحسن له الإنصات، ولا يحتاج فيه إلى الوصات ورسمنا أن يكتمه حتى عن لسانه، وأن يطويه حتى عن جنانه، وأن يتمسك بالأمر النبوي في استعانته على أمره بكتمانه؛ فمن حسن الحزم سوء الظن، وهل لأرباب الأسرار فرج إلا ما دامت في السجن، وقد استلزمنا المرتهن لما استعظمنا الرهن، وفوضنا إلى من لا يعترينا فيه الوهم ولا منه الوهن؛ ونحن تحببنا بما يعلم به حسن موقع رسالة الاسترسال، وبما يبين به عن دلالة الإدلال، وبما يرحب بمودته مجال الجمال؛ والله سبحانه يؤيد الملك بنصر تستخدم له الأقدار، وسعادة لا تتصرف في تصريفها أحكام الفلك المدار، وإقبال يقابل آراءه وآدابه في فاتحة الورد وعاقبة الإصدار، وعز لا يزال منه متوقلاً في درجات الاقتدار إن شاء الله تعالى.

.الطرف الثالث عشر في المكاتبات الصادرة عن الأتباع إلى الملوك ومن في معناهم:

وفيه ثلاث جمل:

.الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدم:

وهي على أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابي:
ويدعى للمكتوب.. كذا وكذا، ويتخلص إلى المقصود بما تقتضيه الحال، ويخاطب السلطان في أثناء الكتاب بمولانا أو بمولانا الملك، ويعبر المكتوب عنه عن نفسه بتاء المتكلم ولفظ الإفراد، ويختم بقوله: فإن رأى أن يفعل كذا فعل إن شاء الله تعالى. ويدعى للمكتوب إليه بطول البقاء مع التعرض لذكر الخليفة في أثناء الكتاب.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب، كتب به أبو إسحاق الصابي عن أبي الفضل الشيرازي: أحد نواب بني بويه إلى عضد الدولة بن بويه، في جواب كتاب وصل منه إليه، يخبره بفتح خراسان وطاعة صاحبها، وهو: كتابي- أطال الله بقاء مولانا- والأمور التي أخدم فيها جارية على السداد، مستمرة على الاطراد؛ والنعم في ذلك خليقة بالتمام، مؤذنة بالدوام.
والحمد لله حق حمده، وهو المسؤول إطالة بقاء موالينا الأمراء، وحراسة ما خولهم من العز والعلاء؛ وأن لا يخليهم من صلاح الشان، وسمو السلطان؛ وظهور الولي، وثبور العدو.
ووصل كتاب مولانا الأمير أطال الله بقاءه الصادر من معسكره المنصور بكازرين، بتاريخ كذا، مخبراً بشمول السلامة، مبشراً بعموم الاستقامة، موجباً لشكر ما منح الله من فضله وأعطى، مقتضياً نشر ما أسبغ من طوله وأضفى، مشروحاً في الحال فيما كان يجري من الخلاف بين مولانا الأمير السيد ركن الدولة وبين ولاة خراسان، وجهاده إيهام في حياطة الدين، وحماية حريم المسلمين، والدعاء إلى رضا رب العالمين، وطاعة مولانا أمير المؤمنين؛ وتذممه مع ذلك من دماء كانت باتصال الحروب تسفك، وحرمات باستمرار الوقائع تنتهك، ثغور تهمل بعد أن كانت ملحوظة، وحقوق تضاع بعد أن كانت محفوظة؛ وأنه لما جددت العزيمة على قصد جرجان ومنازعة ظهير الدولة أبي منصور بن وشمكير مولى أمير المؤمنين على تلك الأعمال، ودفعه عما ولاه أمير المؤمنين بوسيلة موالينا الأمراء أدام الله تمكينهم منها ومنازعته ومجاذبته فيها، نهض مولانا الأمير الجليل عضد الدولة إلى كرمان على اتفاق كان بين مولانا الأمير السيد ركن الدولة وبينه في التوجه إلى حدود خراسان، فحين عرف القوم الجد في ردهم، والتجريد في صدهم، وأنه لا مطمع لهم في جنبة إلى طاعة أمير المؤمنين انتسابها، وبذمام سادتنا الأمراء اعتصامها، اتعظوا واتزعوا، وعرجوا ورجعوا سالكين أقصد مسالكهم، منتهجين أرشد مناهجهم، معتمدين أعود الأمور على المسلمين عموماً وعليهم خصوصاً باجتماع الشمل، واتصال الحبل، وأمن السرب، وعذوبة الشرب، وسكون الدهماء، وشمول النعماء؛ فخطبوا الصلح والوصلة، وجنحوا إلى طلب السلم والألفة؛ وأن مولانا الأمير عضد الدولة آثر الأحسن واختار الأجمل: فأجاب إلى المرغوب فيه إليه، وتوسط ما بين الأمير السيد ركن الدولة وبين تلك الجنبة فيه، وتكفل بتقريره وتمهيده، وتحقق بتوطيده وتشييده، وأخرج أبا الحسن عابد بن علي إلى خراسان حتى أحكم ذلك وأبرمه، وأمضاه وتممه، بمجمع من الشيوخ والصلحاء، ومشهد من القضاة والفقهاء؛ وأن صاحب خراسان عاد على يد مولانا الأمير عضد الدولة إلى طاعة مولانا أمير المؤمنين ومشايعته، والإمساك بعلائق ولائه وعصمته؛ وصار ولياً بعد العداوة، وصديقاً بعد الوحشة، ومصافياً بعد العناد، ومخالطاً بعد الانفراد، وفهمته. وتأملت- أيد الله مولانا- ما في ذلك من ضروب النعم المتشعبة، وصنوف المنح المتفرعة، العائدة على الملك بالجمال، وعلى الرعية بصلاح الحال؛ الداعية إلى الائتلاف والاتفاق، المزيلة للخلاف والشقاق؛ فوجدت النفع بها عظيماً، والحظ فيها جسيماً، وحمدت الله حق حمده عليها، وشكرته أن أجراها على يد أولى الناس بها، وأحقهم بالمكارم أجمعها، وأن قرب الله بيمنه ما كان بعيداً معضلاً، ويسر ببركته ما كان ممتنعاً مشكلاً؟ فأصلح ذات البين بعد فسادها، وأخمد نيران الفتن بعد تلهبها واتقادها، ووافق ما بين نيات القلوب، وطابق بين نخائل الصدور، وتحنت الضلوع بنجح سعيه على التآلف، وانضمت الجوانح بميمون رأيه على التعاطف؛ وحصل له في ذلك من جزيل الأجر، وجميل الذكر؛ وجليل الفخر، وأريج النشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه، والقرون تتوارثه، والأزمان تتداوله؛ والخاصة تتحلى بفضله، والعامة تأوي إلى ظله.
فالحمد لله كثيراً، والشكر دائماً على هذه الآلاء المتواترة، والعطايا المتناصرة، والمفاخر السامية، والمآثر العالية؛ وإياه أسأل أن يعرف مولانا الملك الخيرة فيما ارتآه وأمضاه، والبركة فيما أولاه وأجراه؛ وأن يهنئه نعمه عنده، ويظاهر مواهبه لديه، ويسهل عليه أسباب الصلاح، ويفتح أمامه أبواب النجاح، ويعكس إلى طاعته الرقاب الآبية، ويذلل لموافقته النفوس النائية؛ ولا يعدمه وموالينا الأمراء أجمعين المنزلة التي يرى معها ملوك الأرض قاطبة التعلق بحبلهم أمناً، والإمساك بذمامهم حصناً، والانتماء إلى مخالطتهم عزاً، والاعتزاء إلى مواصلتهم حرزاً، إنه جل وعز على ذلك قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير.
وقد اجتهدت في القيام بحق هذه النعمة التي تلزمني، وتأدية فرضها الذي يجب علي: من الإشادة بها والإبانة، والإشاعة والإذاعة؛ حتى اشتهرت في أعماله التي أنا فيها، واستوى خاصتها وعامتها في الوقوف عليها، وانشرحت صدور الأولياء معها، وكبت الله الأعداء بها، واعتددت بالنعمة في المطالعة بها والمكاتبة فيها؛ وأضفتها إلى ما سبق من أخواتها وأمثالها، وسلف من أترابها وأشكالها؛ فإن رأى مولانا الأمير الجليل عضد الدولة أن يأمر أعلى الله أمره بإجرائي على أكرم عاداته فيها، واعتمادي بعوارض أمره ونهيه كلها، فإن وفور حظي من الإخلاص، يقتضي لي وفور الحظ من الاستخلاص، فعل. إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح الكتاب بالإصدار:
مثل: أصدر الخادم أو العبد ونحوه، ويؤتى بالصدر إلى آخره؛ ثم يتخلص إلى المقصود بما يقتضيه المقام، ويختم بقوله: وللرأي العالي مزيد من العلو ونحو ذلك.
كما كتب عن بعض وزراء الراشد أو المسترشد إلى السلطان سنجر السلجوقي، في حق قطب الدين أبي منصور أزدشير العبادي: وقد ورد إلى أبواب الخلافة ببغداد رسولاً، وكان أبوه وخاله وسلفه من أهل العلم والزهد، وهو من الفصحاء البلغاء ما صورته: أصدر خادم المجلس العالي هذه الخدمة عن ضمير معمور بالولاء، وإخلاص دواعيه متصلة على الولاء، وعكوف على ما يجرو به حصول المراضي العلية، والتحقق لمشايعته الواضحة شواهدها الجلية، والحمد لله رب العالمين.
وبعد، فما زال الجناب العالي السلطاني الشاهنشاهي الأعظمي أعلاه الله لكل خير منبعاً، وحرمه الآمن للفوائد الجمة مغاثاً ومربعاً، والسعادة والتوفيق مقرونين بسامي آرائه، مطيفين به منن أمامه وورائه؛ في كل رأي يرتئيه، ومقرب يصطفيه، وامرئ يتخيره ويقلده، وأمر يحله ويعقده، وصنع جميل يصيب من الاستحقاق موضعه، ويعيد طيب الذكر مجهزه ومبضعه؛ مناقب تفوت الإحصاء عداً، وترد من مفاخر الوصف منهلاً عذباً وتسير بذكرها الرفاق غوراً ونجداً، وتجاوز غايات المدح علاء ومجداً، وكفى على ذلك دليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً؛ ما اقتضته الآراء العلية من التعويل على فلان العبادي في تحمل الرسالة الأعظمية التي عدقت منه بالنقي الجيب، البريء من العيب، العاري من دنس الشك والريب؛ فإن اختياره لهذا الأمر طبق مفصل الصواب، ولشاكلة رمي الرأي أصاب؛ إذ هو الفذ في علمه وفضله، السديد في قوله وفعله، البارع في إيجاز الخطاب وفصله، المعرق في الزهادة والديانة المزينين لفرعه وأصله.
ولما وصل إلى الأبواب العزيزة الإمامية- ضاعف الله تعالىمجدها- مثل بالخدمة مؤدياً من فرضها مما يلزم أمثاله من ذوي العقائد الصحيحة، والموالاة المحضة الصريحة؛ وصادف من التكرمة والإنعام ما يوجبه له محله من العلم الذي لا تكدر الدلاء بحره، ولا تدرك الأرشية بطولها قعره؛ فهو فيه نسيج وحده، وناسج برده، وناشر علمه، ومستغزر ديمه. وألقى من ذلك ما يقتضيه اختبار أحواله الشاهدة بأنه ممن أصحب في يده قياد الفصاحة الأبي، وملكته زمامها الممتنع على من عداه العصي، وجمع له من الفضائل ما أصبح في سواه متفرقاً، وخير له منها ما جعل جفن حاسده لفرط الكمد مؤرقاً، إلى ما زان هذه الخصائص التي تفرد فيها وبرع، وطال مناكب الأقران وفرع: من الإخلاص الدال على تمسكه بحبل الدين المتين، واستمراره على جدده الواضح المبين، وفصل عن الأبواب العزيز فائزاً من شرف الإرعاء، ما وفر الحظوظ والأنصباء؛ حاصلاً من حميد الآراء، على أنفس العطاء وأجزل الحباء، وقد تمهد له من الوجاهة والمكانة ما يفخر بمكانه، وتنقطع دون بلوغ شأوه أنفاس اقرانه؛ ورسم- أعلى الله المراسيم الإمامية وأمضاها- مطالعة المجلس العالي السلطاني أعلاه الله بهذه الحال، تقريراً لها عند العلم الكريم واستمداداً للطول والإنعام، باختصاص قطب الدين بالاحترام؛ الذي هو حقيق بمثله، وخليق أن لا يضحى عن وارف ظله، وما يوعز به من ذلك يصادف من دواعي الاستحقاق أوفاها، ويرد من مناهل الذكر الجميل أعذبها وأصفاها، ويتلقى من شرف المحامد بأطلفها وأحفاها، وللرأي العالي علو رأي، إن شاء الله تعالى.